
لو قررتَ في يوم من الأيام زيارتنا وركنت سيارتك التي اقتنيتها مؤخراً في الساحة الخالية المقابلة لمنزلنا، ثم تقدمت ناحية البوابة وقرعت الجرس وانتظرت أحدنا ليفتح لك وتدخل، فإنك ستلمح وأنت تمشي على الممر المؤدي إلى باب المنزل، تحديداً في الحديقة الجانبية الواقعة على يسارك، هناك في تلك الزاوية البعيدة، ما قد يبدو لوهلةٍ أنه كومةٌ من القِمامة، لكنك لو أمعنت النظر قليلاً فستكتشف أنها كومة حزينة من الكتب تركها والدي هناك. أعلم أنك ستغُضُّ الطرف وتنشغل بحديثٍ جانبيٍّ معي عن أي موضوع آخر. لكنني أؤكد لك – بسبب معرفتي بك – أن التساؤلات ستطل من رأسك عن سبب وجود تلك الكتب هناك، بل أكاد أجزم أنك ستستغرب اهمالنا وعدم تقدرينا للكتب وما تحويه من علوم وحكمة.
اعلم – يا صديقي – أَنك مُتسرعٌ باتهامك لنا بالاهمال وعدم التقدير، فما تراه ليس ما تظنه بل هناك أسبابٌ أخرى سآتي على ذكرها بعد قليل هي من تسبب بذلك المنظر، لكن الآن احرص أن تخلع حذاءك عند عتبة الباب وتفضل بالدخول.
تلك الكُتب في الخارج، هو قرار لم نُصدره، بل هو حكم أقره ونفذه أبي – والكتب بالمناسبة تعود ملكيتها إليه – بأن لا يبقى في البيت كتاب واحد. في البداية لم نستوعب ما يحدث حين تفاجأنا به ينقل الكتب إلى الخارج، ظننا أنه يفعل ذلك لحاجةٍ في نفسه بغرض إعادةِ تأهيل المكان أو ما شابه، لكن لم نعِ حقيقة أنه كان يتخلص منها إلا لاحقاً. حاولنا أن نثنيه عن هذا القرار. لكنه لم يستمع وأصر على موقفه. أعدنا الكتب إلى الداخل لكنه أخرجها مرة أخرى. أخبرته أمي أن منظر الكتب في الخارج حزين وأنها ستتعرض للبرد والرياح والأمطار وقد تتلف أوراقها وتنمحي كتابتها، بل قد يسيل الحبر من بين جنباتها وهي هناك في العراء، لكن لا جواب، لم يتلفت الى نصيحة أمي. تحدث إليه الجيران، عرضوا مساعدتهم في حال لم يكن للكتب مساحة كافية في منزلنا، زارنا أصحاب القلوب الرحيمة من أمناء المكتبات، عرضوا خدماتهم المجانية لكفالة تلك الكتب اليتيمة، لكن أبي لم يلتفت . أدخلنا الوسطاء؛ أصدقاءٌ قدامى، كبارُ العائلة ، زملاءُ دراسة، كل ذلك لم يجدِ نفعاً. حتى أن جدّي – طريح الفراش – نصحه أن يعيد الكتب الى مكانها. لكن أبي حزيناً رفض جميع ما سبق.
ستشعر حين تجد هذه الخصومة الشديدة من أبي تجاه الكتب أنها ارتكبت جريمةً في حقه أو أنها أساءت إليه. لكنني أُطمئنُك أن الكتب لم تفعل أيّاً من ذلك، بل إنها طوال إقامتها معنا في المنزل تصرفت كأفضل ما يكون. الحقيقةُ هي أن أبي هو السبب. فقد توصل لقناعةٍ تقضي بأنهُ لن يُمضي ما تبقى من حياته بين تلك الأوراق، بل يرى أن العمر لابد وأن يمضي خارج صفحات الكتب. وهذا ما نتج عنه تلك الكومة التي شاهدتها هناك في الخارج عند الحديقة الجانبية.

لو سألتني عن حال والدي الآن ، فسأحتار كيف أُجيبك. يدّعي أبي أنه على ما يُرام، أنه يمضي قُدماً في حياته وأنه يُحاول أن ينسى ما جرى بينه وبين الكتب. لكنني أؤكد لك أنه يتظاهر بذلك، وأنه ليس على ما يرام. لم نعد نراه كثيراً في المنزل.
أرجوك لا تحدق بي هكذا. أتفهم هذه النظرات، لكن لا شيء يدعو للقلق، لا يُعاني أبي من أي شيء، هي مرحلةٌ لابد أن يمر بها ويعاني منها قليلاً لكنه في النهاية سيتجاوزها، هو قراره، ولا بد أن نحترمه في النهاية.
التصنيفات :الكتابة
قصة لابد أن يتوقف عندنا من يمضي عمره في القراءة