
متأكد أنه يتنقل بالمترو منذ زمن، لكنني لم أنتبه له إلا في أكتوبر الماضي، حيث شاءت الصدف ولعدة أيام متتالية أن أجلس بجانبه في المترو. صباح كل يوم في طريقي إلى العمل ألتقي به لمدة خمس وأربعين دقيقة حتى يصل إلى محطته. أصبح وجوده الصباحي ضرورياً. في البداية كنت أكتفي بتحية الصباح، ومع مرور الأيام واعتيادي على وجوده بدأت الأحاديث بيننا تنمو شيئاً فشيئاً. لم تكن هناك مواضيع محددة، بل في الغالب تعليقات عشوائية لا علاقة للطرف الآخر بها. لكنها غدت طريقة مميزة لبداية اليوم.
كنت أشتكي له عن العمل يوم أمس، يهز رأسه متفهماً ويلقي بتعليق عام. ثم يحكي لي حكاية لا تعنيني عن أحد أقاربه ، فبدوري أكتفي بهزة رأس وتعليق عام من نوع “حسناً” أو “يا إلهي”. نفهم أن تلك الحكايات من طرف واحد، وللطرف الآخر أن يكتفي بالاستماع.
ثم مرت الأيام، وأصبح جلوسي إلى جانبه كطقس يومي لابد منه. أحياناً كنا نتبادل الطعام. مرة أحضر لي فطيرة ومرة تعمدت أن أطلب كوبين من القهوة، لي وله.
غدت تلك الحكايات فجأة ضرورية، أصبحت أجهز في اليوم السابق قائمة بالمواضيع التي أود الحديث عنها. الأخبار، حكايات العمل، قصص اليوم العادية. صرت أنتقي ما يستحق الطرح في لقاء الغد مع ذلك الشخص العادي الذي أجتمع فيه كل يوم عمل لمدة خمس وأربعين دقيقة. مرت الأيام على هذا الحال. حتى جاء ذلك اليوم وتفاجأت أن مقعده خالٍ، تلفت حولي لكنني لم أجده. جلست في مكاني المعتاد بجانب ذلك الكرسي الفارغ أنا و أحاديثي التي جهزتها من أجله لكنني أجلتها ليوم آخر. ثم جاء اليوم الثاني، والثالث، ثم الرابع، وهكذا تمكن الفراغ من ذلك الكرسي لأتخلى عن تلك الأحاديث المؤجلة إلى الأبد
التصنيفات :الكتابة
طريق الضباب هذا🚶♀️
نص حي جميل، أحسنت!