الكتابة

عن الكتابة

تذكرت موقفاً من الماضي البعيد، حين كانت تزورنا عائلةٌ لم نكن نراها إلا في إجازة الشتاء والصيف، وكان لديهم صبيٌّ يكبرني بعام واحد. حينها لم أكن قد تجاوزت الثامنة أو التاسعة من العمر. وكان هذا الصبي ممن تنزعج منه الجارات حين يأتي ويدعون عليه وعلى والديه بالويل والثبور. أذكر في تلك الأيام، حين كنا نجتمع أنه كان يعتلي جدار منزلهم، ويغني بلحن مشابه للنشيد الوطني بكلماتٍ لم أكن أفهم منها أي شيء. كنتُ حينها منبهراً (بقدرته على الوقوف على السور، وبغناءه ، وبالكلمات التي لم أفهمها) وكنتُ متأكداً أنني سأتعلم هذه الكلمات في العام الدراسي القادم. لكن العام القادم أتي ولم أسمع تلك الكلمات ثانيةً، والآن أستطيع أن أجزم لك عزيزي القارئ أنه لم يكن يقل أي شيء، بل إن الكلمات التي كان يغني بها لم تكن كلمات حقيقية، بل كان صراخاً وحروفاً معجونة معاً لا تشكل أي معنى. يتشابه هذا الغناء مع الكثير مما تقرؤه اليوم، جملاً يبتغي أصحابها من وراءها الظهور لكنها لا تشكل أي معنى.


تبادرت إلى ذهني فكرةٌ مفادها أن أي شخص بإمكانه كتابة أي شيء ومع قليل من الزينة سيبدو ما ينشره كأنه من صميم الحكمة.


انتهيت من قراءة مذكرات الأرقش مؤخراً، وكانت القراءة الثانية لي بعد قرءاةٍ أولى منذ سبع سنواتٍ أو أكثر. القراءة الأولى نتج عنها إعجابي بميخائيل نعيمة وقراءتي للعديد من كتبه لاحقاً وعلى رأسها سيرته الجميلة “سبعون”. أما قراءة الأمس، فكأنها وضعت حداً لحالة الإعجاب تلك وجعلتني أراجع قائمة كتابي المفضلين أو رواياتي المفضلة. لم أجد في مذكرات الأرقش الثانية ما يثير الإعجاب. لا أنكر أن الكلمات كانت جميلة، والتعابير كانت جيدة، لكنها مشابهة لغناء ذلك الصبي.


اكتب تغريدتين، اكتب مقالاً، حاول قدر الإمكان أن تكون كلمات ذلك المقال صعبة، وأفكاره غامضة. مبروك أنت كاتب!


لا يقتصر الحديث هنا عن العربية، بل حتى في اللغات الأخرى، دائماً ما أقرأ مقالات أجنبية حين لا أجد مصادر عربية كافية. تمتلئ تلك المقالات بالحشو والبديهيات التي لا قيمة لها للقارئ سوى إبقاءه لأطول فترة ممكنة في الموقع من أجل أن يتعرض لأكبر عدد ممكن من الإعلانات، ولو اكتفيت حينها بقراءة آخر فقرة من الموضوع لاكتفيت.
أصبح الحشو في الكتابة والكتابة عن أي شيء فناً من الفنون يتم تدريسه بمنهجيه. والضحية هو فعل الكتابة.


ليس الحديث هنا لمصادرة حق أي شخص بالكتابة، الكل مخول بأن يكتب. لكن الحديث عن جودة ما تتم كتابته وحق القارئ في قراءة ما يمنحه المتعة أو المعرفة. خاصةً أن فعل الكتابة الحديث مرتبط بالنشر بشكل وثيق، فأنا لا أتحدث عن مذكراتك الشخصية أو يومياتك الخاصة، بل تلك الصفحات المنشورة والتغريدات الظاهرة في حسابك والتي توحي لمن يقرؤها بأنك تستحق مكانة بين من يكتب، لكنك لست كذلك.

التصنيفات :الكتابة

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.