القراءة

كاتب من سوريا – حنا مينة


قرأت مؤخراً كتاب هواجس في التجربة الروائية لحنا مينة، (تدوينة سابقة كتبتها عن حنا مينة، توفي بعدها بثمانية أشهر، تحديداً في ٢١ أغسطس من العام ٢٠١٨)، الكتاب عبارة عن مقالات متعلقة بالكتابة، وتحديداً كتابة الرواية. يحتوي على اثنتي عشرة مقالة، وثلاث مقابلات صحفية. وصدر في عام ١٩٨١، وبالتالي فالمقالات والمقابلات كتبت في سبعينيات القرن الماضي. يتحدث حنا مينة في الكتاب عن العديد من المواضيع المهمة للكاتب الروائي، كالفكرة ، والتجربة، والشخصيات، والقراءة، ودائماً ما يضرب الأمثلة ويستلهمها من رواياته وشخصياتها. فالنصائح هنا لشخص مجرب وليس منظر.

يشدد حنا مينة في العديد من صفحات الكتاب على أهمية التجربة ومعايشة الحياة للكاتب. ويحرص أن يسوق أمثلة مما مر به في حياته وأثر لاحقاً في انتاجه الأدبي، سواء كانت التجربة مقترنة بالغربة، أو بالمهن التي مارسها، أو حتى بالفقر الذي عايشه خلال فترات مختلفة من حياته.

غير أنني ، قبل ذلك ، سأسوق هذه الحكاية : فتاة جاءتني من مدينة بعيدة ، حاملة دفتراً كبيراً محبراً ، فيه ما تسميه رواية ، لم أعد أذكر الاسم الذي أعطته لها . امتدحت أولا ما أكتبه . قالت إنها تقرأه كلمة كلمة ، وإن رواياتي موضع إعجابها الكبير ، وإنها تريد أن تتتلمذ علي ، وما كتبته عزيز عليها ، إلى درجة أنها أثرتني وحدي بقراءته وإبداء رأيي فيه ، ورجت أن يكون رأياً صريحاً ، لا أثر للمجاملة فيه وابتسمت .. وكانت جميلة حيية ، تأمل خيراً فيما كتبته ، وتتوسم خيراً في الرأي الذي سأبديه حوله

اتفقنا على اللقاء بعد شهر ، حاولت خلاله جاهداً أن أقرأ ما كتبت فلم أوفق . كان مجرد كلام إنشاء مدرسي ، وصف كثير ، حدث صغير لا قيمة له ، يدور حول علاقة حب لا أساس لها في الواقع ، فهي مجنحة ، أثيرية ، جبرانية ، الخ

قلت للفتاة حين جاءتني في الموعد المحدد : ـ كم استغرق هذا العمل من وقتك ؟ شهوراً
وكم فكرت قبل أن تكتبيه ؟ طويلا ..


ولماذا اخترت هذه القصة وليس غيرها؟
ـ لأنها قصة صديقة روتها لي

هل كنت شقية في البيت؟
لا

في المدرسة؟
لا

في التدريس؟
لا

بعد الجامعة؟
لا

هل عشت أنت قصة حب مماثلة ؟
لا

هل وضعت يديك بيدي رجل قبل الآن؟
لا

هل لامست شفتاك شفتي رجل ما؟
لا

هل عذبك الحب وسهرت إلى الصباح كثيراً ؟
لا

عرفت الفقر؟
لا

ذقت الجوع؟
لا

سافرت خارج الوطن؟
لا

سافرت داخله؟
قليلاً

عرفت البحر؟
ـ أنا من مدينة داخلية !


سبحت يوماً
ـ لا أستطيع .. أهلي يذبحونني !

ـ أنت آنسة ؟
طبعاً

ـ غير مخطوبة
ـ غير مخطوبة

ناولتها الدفتر وقلت
حين تجيبين بنعم على كل ما سألتك عنه .. إبدئي بكتابة قصة قصيرة عن تجربتك

ـ وهذا الذي كتبته ؟
سييء جداً ..

ـ أهذا رأيك الأخير ؟
والقاطع

انخرطت الفتاة في البكاء ، كأن مستقبلها قد ضاع ، أو أن حدثاً خطيراً قد وقع لها ، فأظلمت الدنيا في عينيها . ولقد لمت نفسي على صراحتي ، وعلى هذه الصدمة التي سببتها لها ، لكن واجبي كان قول الحقيقة وقد قلتها ، وصرت ، بعد ذلك ، أرفض إبداء الرأي ، ما استطعت ، في مخطوطات كثيرة تعرض علي لكتاب من الشباب

لأن الرواية بخلاف الأجناس الأدبية الأخرى . تحتاج إلى شيئين : الوقت والصبر ، الوقت في الحصول على التجربة، الحياتية والنظرية ، أي التجربة التي تتحقق من العيش بين الناس ، والتجربة التي تتحصل من مطالعة الكتب ، ليكون الروائي ذا نظرة ثقافية شمولية .. والصبر الذي هو واجب في الحالتين : في حالة اكتساب التجربة وحالة إفراغها ، ومن هنا فإن الرواية التي هي عالم قائم بذاته ، تحتاج إلى حياة كاملة قائمة بذاتها على المعرفة التامة ، البالغة الاتساع والعمق.

يتحدث في موضع آخر في الكتاب عن البساطة في الكتابة، وكيف على الكاتب أن يكتب نصاً يفهمه القارئ العادي قبل المثقف، وأين يكتب بلغة بسيطة، ويتساءل: لمن يكتب المثقفون؟

أداة التوصيل المثلى هي البساطة . أقول البساطة لا التبسيط ، ومعنى هذا أننا يمكن أن نكتب بأرقى لغة ممكنة ، وأكثرها شاعرية ، ونظل نحافظ على البساطة التي لا يجيدها إلا المبدعون الحقيقيون . انني أقرأ أشعار نيرودا وماياكوفسكي وأراغون وحكمت وایلوار وأفهمـها ، بينما أعجز عن فهم بعض الشعر الحديث عندنا ، فلماذا ؟ وإذا كنت أنا المثقف أعجز عن فهم بعض هذا الشعر ، فلمن يكتب الشعراء ؟ ولمن يكتب القصاصون الذين أغرموا بشكلية « الموجة الجديدة » للرواية الأوروبية ؟ تسألون عن السبب في أن رواياتي تلقى هذا الرواج المدهش؟ أنظروا في أداة التوصيل التي تمتلكها . لا أقول قلدوها . معاذ الله . فالآخرون أساتذتي، لكنهم يستطيعون، إذا تخلّوا عن الشكلية والبهرجة والرغبة في الابهار أن يجدوا طريقتهم الخاصة في التوصيل.

إن كل كاتب يحتاج إلى قارىء ، ثم ما قيمة الكاتب دون قاريء ؟ قد لا أدعو إلى كتابات يفهمها القارىء العادي ، لكنني أدعو إلى كتابة يفهمها القارىء المثقف على الأقل . الأمية سبعون بالمئة في الوطن العربي وترتفع في بعض الأقطار إلى الثمانين والتسعين ، وعلينا ككتاب أن نربي القراء ، أن نشوقهم إلى القراءة ، أن نوصل أفكارنا إليهم ، فكيف نفعل ؟ نكتب للنخبة ؟ هذا مرفوض في رأيي . القارىء لا يريد منا أن نكتب أشياء يفهمها فحسب ، بل يريد أن يرى صورته ومشاكله في كتابتنا ، ولهذا فإن الدوران في المتاهات النفسية للبطل المثقف لا تعني إلا مثقفاً آخر.

يُشير حنا مينا كذلك إلى أن الكتابة تعني الجهد والتعب، وليست متعلقة كثيراً بالإلهام كما يعتقد الكثير ممن يرغب في كتابة رواية أو قصة ما. لابد للكاتب أن يتعب ويجتهد ويبذل الكثير من الوقت في سبيل الكتابة

في ذكرياته عن باريس ، يتحدث أرنست همنغواي طويلا عن الوضع النفسي والجسدي الذي كان عليه عند كتابة هذه القصة أو تلك من قصصه : كيف كان ينهض صباحاً ، ويجلس إلى طاولة العمل ، ويشرع في الكتابة ، بجدية بالغة ، وكيف كان يوفر أطيب أوقاته لهذه الكتابة ، ويفرح إذا توفق فيها ، ويحزن إذا عجز ، ويظل قلقاً موسوساً ، يعمل في البيت والمقهى ، ويتناول بعض الشراب ، ويقيم وليمة شخصية إذا ما أنهى قصة ناجحة.

هذه الاحتفالية ليست مجانية . القصة تساوي التعب الذي بذل فيها ، القلق الذي سبق احتضان الفكرة ، انضاجها ، الوقت الكافي لافراغها ، ثم القراءة ، والقراءة ، والعيش ، بأوسع وأعمق ما يكون ذلك . فإذا كان هذا كله لأجل قصة قصيرة ، فكيف الحال مع الرواية ، هذه التي تتحدث عن عالم بكامله ، وترسم دنيا من الأحداث والشخصيات ؟ إن العمل في أية رواية يستغرق عاماً أو عامين ، وقد استغرق العمل في « الحرب والسلم » اثني عشر عاماً ، وحتى عند طباعتها ، كان تولستوي يهرع إلى المطبعة لإضافة مقطع أو حذف مقطع ، أو تعديل مشهد بكامله ، وصياغته من جديد ، وقد ملأت مسودات هذه الرواية ، كما يقول المؤرخون ، أربعة عشر صندوقاً ، ولو لم تكن لتولستوي سواها لكفي . فالمسألة ، أولا وأخيراً ، ليست بغزارة ما يكتب الكاتب ، بل بنوعيته وكذلك حفاوة النقد على أساسها فبعض الكتاب أبدع رواية واحدة ، أو مجموعة قصص واحدة ، ونال الاعتراف الأدبي.

عند سؤاله عن الرواية العربية، يشعر حنا مينة بتفاؤل كبير فيما يكتبه الروائيون العرب، بل إنه يصنفهم في في درجة لا تصح معها مقارنتهم بالأدباء العالميين بغض النظر عن الجوائز التي حصلوا أو لم يحصلوا عليها (المقابلة كانت قبل ثمان سنوات تقريباً من حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب)

س 7 ـ كيف تنظر إلى واقع فن الرواية في الوطن العربي . قياساً إلى واقعها في العالم ؟
ج 7 ـ بدرجة جيد جداً .. الرواية العربية بخير بخير بخير . ولو ترجمت هذه الرواية إلى اللغات الأجنبية ، أو كتبت أصلاً باللغات الأجنبية ، لكان لها شأن عظيم ، ودوى عظيم أيضاً . يقولون لك : هذه الرواية تكاد تكون عالمية ، أو انها اقتربت من العالمية ، أو انها تملك مقومات العالمية .. هذه ثرثرة .. لماذا تكون العالمية على مقاس ما يكتب في أوروبا ، ولا تكون على مقاس ما يكتب في الوطن العربي ؟ أين في فرنسا ، أو بريطانيا وأميركا نفسها ، كاتب روائي أكبر من نجيب محفوظ في وقتنا الراهن وأين الروائيون المبدعون أكثر من الطاهر وطار ، وعبد الرحمن المنيف ، وجبرا ابراهيم جبرا ، وإلياس الخوري ، والطيب الصالح وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني ، ويوسف القعيد وهاني الراهب ، وعبد النبي حجازي وغائب طعمة فرمان وإسماعيل فهد إسماعيل وغيرهم ، ان المرء ، بقليل من التذكر ، يستطيع أن يورد أسماء روائيين كثيرين ، لا تقل أعمالهم عن أعمال الروائيين في العالم ، وهي أفضل من تلك الأعمال التي يحصل أصحابها على جائزة نوبل.

من هو حنا مينة؟ هو روائي سوري، ولد في ١٩٢٤ وتوفي عام ٢٠١٨.
له الكثير من الروايات المنشورة والأعمال التليفزيونية والإذاعية.

من أشهر ما كتب رواية “نهاية رجل شجاع” والتي حولت إلى مسلسل في عام ١٩٩٤
عُرف عنه بأنه روائي البحر، له العديد من الرواية المتعلقة بالبحر ك الياطر ، الشراع والعاصفة، وثلاثية البحر (حكاية بحار، الدقل، المرفأ البعيد). كتب كذلك ثلاثية (بقايا صور، المستنقع، القطاف) اعتبرها الكثيرون سيرته الذاتية لكنه في هذا الكتاب نفى ذلك وذكر انه استلهم هذه الأعمال من سيرته لكنه لم يورخ لها.

التصنيفات :القراءة, الكتابة

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.