بعيداً عن القراءة

نصوص من يناير

ممر مشاة



أخذت أتأمل ذلك الجهاز المزروع على جانب الشارع ليراقب حركة المرور، تحديداً عند ممر المشاة. كان الجهاز يترقب كل سيارة لا تحترم المشاة ليقوم بمخالفتها. يقع ممر المشاة ذاك في الشارع المقابل للمستشفى، وفي تلك اللحظة حين كنت على وشك عبور الممر بسيارتي لمحت من بعيد الممرضة وقد وطئت قدمها الشارع استعداداً للعبور إلى الجهة المقابلة متوجهة إلى عملها.

توقفت، وتوقفت كل السيارات من حولي، ليس احتراماً للممرضة ولما تبذله من جهود في خدمة الإنسانية ودعم الأطباء والعناية بالمرضى والتعامل مع مختلف أنواع الأمراض، ولكن لأن ذلك الجهاز كان يراقبنا هناك من على جانب الشارع متحيناً أي زلة نرتكبها ليخالفنا ويبلغ علينا السلطات المختصة والسبب أن الممرضة لا تزال تعبر الشارع من ممر المشاة. لكن ذلك لم يحدث، ترقبه ذهب سدى والتزامنا كان حقيقياً إلى أن رفعت الممرضة قدمها أخيراً من الطرف الآخر من الممر فانطلقنا مسرعين كلٌ إلى وجهته.

لن يبالي الجهاز بالازدحام، وببطء خطوات الممرضة، فهي في تلك اللحظة تملك كامل الحرية لتفعل ما تريد ما دامت أقدامها على اسفلت الشارع، أما سياراتنا – التي صممت أساساً للشوارع – فعليها الانتظار إلى الأبد، حتى يعبر ذلك الشخص إلى الطرف الآخر.

لو لم يكن ذلك الجهاز موجوداً لتعالت صيحات الاستهجان من السيارات على مشيها البطئ، بل لم تكن لتسمح بعبورها من الأساس، فلن يتوقف أحد من أجل ممر المشاة. كان ذلك الجهاز كالآلهة تراقب البشر عن كثب لتعاقبهم على مخالفتهم الأوامر. بالطبع لم يكن البشر في تلك اللحظة يملكون من الوازع أو الاحترام للقانون ما يجعلهم ينتظرون – من تلقاء أنفسهم – عبور تلك الممرضة، بل كان تفكير كل شخص منهم بمشواره الذي يكاد يتعطل بسبب رغبتها في الذهاب إلى عملها مستخدمة ممر المشاة في الشارع المقابل للمستشفى.


مفترق طرق



التقينا عند نقطة محددة، كانت طرقنا مختلفة، ووجهاتنا مختلفة، لكن جمعنا الطريق في نقطة محددة اضطررنا فيها أن نكون معاً، تبادلنا الأسئلة، من أين أنت؟ وما الذي جاء بك إلى هنا؟ ما هي وجهتك؟ وكم ستبقى هنا؟

في البداية كانت الأسئلة عادية، لم تعني لنا الكثير، لكن عندما طال بقاؤنا، وتشعبت الأسئلة، اكتشفنا أن إجابات الاسئلة ستكون مؤلمة، بدأنا حينها نستعين بالحوارات الجانبية، حاولنا التهرب من تلك الأسئلة بالحديث، الكثير من الحديث، والكثير من الحوارات الجانبية، وأخذت الأيام تمضي ونحن لازلنا في ملتقى الطرق ذاك، نسترق النظر ناحية وجهاتنا وفي نفس الوقت نحاول تجاهلها. لم نعلم كم من الوقت مر على تغافلنا ذاك، قد تكون أياماً وقد تكون شهور، لكن ما كنا نؤمن به تماماً وما كنا نتوقع حدوثه، هو أن نفترق، وأن يمضي كل واحد منا في حال سبيله. كانت فكرة مؤلمة في حينها، أخذنا ننظر بأنانية إلى وجودنا المؤقت في ملتقى الطرق كوجود لا يفنى، كنا نخدع أنفسنا، وكنا نعلم أننا كنا نخدع أنفسنا، نتجاهل الأيام لننسى وجودنا المؤقت في هذا المكان، لكن تعاقب الشمس والقمر الأبدي كان كجرس كنيسة يدق كل أحد ليعلن زيف كل ما نفعل.

مرت الأيام وزاد التوتر في حواراتنا، كنا نعلم في دواخلنا أن هذه اللحظات ليست هي الحقيقة، ليست هي الواقع، كنا نعلم أننا مجرد ممثلين على خشبة مسرح، وأن الستار سيُسدل في أي لحظة ويعلن المخرج انتهاء المسرحية لنلقي بعدها ملابسنا التي كنا نمثل فيها ونعود إلى واقعنا.

كل تلك الأفكار كانت تدور في رأسي، لا تجعله ينغمس في أي من تلك اللحظات، أصبحنا أثناء حواراتنا المؤقتة تلك نتجنب التقاء العيون، لأن العيون لا تكذب، لأنها تذكرنا بالحقيقة التي نحاول التهرب منها. رمينا ساعات الجيب، أخذنا نهرب من الوقت بكل وسيلة ممكنة، لم نفكر بالفراق، ولا بالوداع، لازلنا نتشبث بفكرة البقاء الوهمي تلك، الخلود الأبدي، لكننا في قرارة أنفسنا نعلم أننا نخدع تلك النفس، وأن لحظة حقيقية ستعلن نهاية بقاءنا المؤقت ذاك ليواصل كل واحد منا طريقه إلى وجهته من جديد.


إلى القمة



قررت في ذلك اليوم أن أصعد قمة جبل مع صاحبي، أوقفنا السيارة عند ما يعتبر بداية المسار، أشار صاحبي إلى مسار متعرج يصعد إلى الأعلى اضطررت معه لأرفع رأسي وقال لي بابتسامة: سيكون هذا مسار اليوم. ، ثم أشار إلى نقطة بعيدة، وقال: ستكون تلك نقطة الوصول أو الهدف من مشوار اليوم، كانت القمة بعيدةً جداً عنا، ويبدو أن الجهد الذي سيُبذل للوصول إلى هناك سيكون خارقاً ولا أظن أنني أقوى عليه، راودتني للحظات فكرة أن أعود أدراجي وأختار طريقة مختلفة أقضي بها إجازة نهاية الأسبوع، وكنت على وشك أن أخبر صاحبي بذلك، لكنني لم أفعل، افتعلت الحماس وبدأنا مشوار الصعود إلى الأعلى.

بدأنا بخطوة، وتلتها أخرى، دروب خطرة وأخرى مستوية، وشيئاً فشيئاً زاد التعب و تزايدت نبضات القلب، و اضطررنا للتوقف لشرب الماء بالرغم من برودة الجو، استمرت تلك الخطوات الصغيرة تأخذنا إلى الأعلى وبعد أكثر من ساعة كاملة بكثير أعلن صاحبي أننا وصلنا إلى القمة!

لم أكن حينها أشعر بالإنهاك الشديد، ولا أستطيع القول بأنني بذلت مجهوداً خارقاً، كانت مجرد خطوات صغيرة صاحبها مجهود بدني وصبر وإصرار، تراكمت تلك الخطوات لتقودني وصاحبي إلى القمة، وحينها سخرت من نفسي ومن ترددي في البداية لأن الصعوبات لم تكن كما توقعتها.

استمتعت بالطريق إلى القمة، واستمتعت بالخطوات الصغيرة، كان هذا ملخص تلك التجربة، والتي أشعر أنها تعكس بشكل مباشر ما يحدث في حياتنا حيث نتهيب في كثير من الأحيان السعي لتحقيق أهداف وأحلام معينة بسبب شعورنا أنها بعيدة المنال أو أنها مستحيلة، بينما لو ركزنا تفكيرنا فقط في الخطوة الأولى ثم بعد ذلك أتبعناها بالخطوة الثانية وهكذا حتى نصل إلى الهدف فإن تحقيق ذلك الحلم لن يكون مستحيلاً. سنتعب ولاشك في الطريق، وسنرتكب الأخطاء، لكن مادمنا مؤمنين بالهدف أو بالحلم الذي نود تحقيقه فلا سبيل سوى الاستمرار في تلك الخطوات الصغيرة حتى نحقق ذلك الهدف.

التصنيفات :بعيداً عن القراءة

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.